الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ وَقْتِ ذَلِكَ وَسَبَبِهِ وَحَقِيقَةِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَسُنَنِهَا بِالْإِيضَاحِ وَالْبَسْطِ: وَذَلِكَ عِنْدَ السَّفَرِ لِلْمَخَافَةِ فِيهِ، وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ رَائِدُ الْمَنِيَّةِ وَمَظِنَّتُهَا.وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ مَرَضٍ، فَاقْتَضَتْ ذَلِكَ قَرِينَةً فِي الْحُكْمِ بِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ.وَقَدْ كُنْت أَرَدْت بَسْطَهُ، فَلَمَّا ذَكَرْت طُولَهُ قَبَضْت عَنْهُ الْعَنَانَ، وَأَحَلْت عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالْبَيَانِ.الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {اثْنَانِ} وَكَانَ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي شَخْصَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ رَجُلَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ذَوَا عَدْلٍ، فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْمُذَكَّرِ، كَمَا أَنَّ «ذَوَاتَيْ» لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْمُؤَنَّثِ.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إعْرَابُهُ: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ {شَهَادَةُ} مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ وَاثْنَانِ خَبَرُهُ التَّقْدِيرُ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ.الثَّانِي: أَنْ يَرْتَفِعَ اثْنَانِ بِشَهَادَةٍ؛ التَّقْدِيرُ وَفِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ.الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بِشَهَادَةٍ.الرَّابِعُ: يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: شُهُودُ شَهَادَةِ بَيْنِكُمْ اثْنَانِ، وَيَجُوزُ الْحَذْفُ مَعَ الِابْتِدَاءِ، كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَبَرِ وَفِي الثَّالِثِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَا يَتَعَدَّى، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْكُمْ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَافُ وَالْمِيمُ لِضَمِيرِهِمَا؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ.الثَّانِي: مِنْ قَبِيلَتِكُمْ: قَالَهُ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.الثَّالِثُ: مِنْكُمْ: مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ} قِيلَ: هِيَ لِلتَّخْيِيرِ.وَقِيلَ: لِلتَّفْصِيلِ.مَعْنَاهُ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَشُرَيْحٌ؛ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.وَتَحْقِيقُ النَّظَرِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْكُمْ} قَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ قَوْلُهُ: أَوْ آخَرَانِ، وَقَوْلُهُ: غَيْرِكُمْ؟ وَهِيَ مَسْأَلَتَانِ تَتِمُّ بِهِمَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، فَإِنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ كَانَ قَوْلُهُ: غَيْرِكُمْ لِلْكَافِرِينَ، وَكَانَ الْآخَرَانِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ كَانَ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا فَقَبِيلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ.وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مِنْ غَيْرِكُمْ؛ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ.وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ لَهُمْ وَالْكَلَامَ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ؛ وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.ثُمَّ قال: {مِنْ غَيْرِكُمْ} يَعْنِي أَوْ آخَرَانِ عَدْلَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ.وَبِهِ يَصِحُّ الْعَطْفُ، وَقَالَ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْقَبِيلَةِ أَوْ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: إنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيَتَخَصَّصُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}، كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ فِي الْغَالِبِ، فَيُؤْخَذُ الْكَافِرُ عِوَضًا مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ؛ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ، وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ وَالْآيَةِ.وَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} يَعْنِي وَقَدْ أَسْنَدْتُمْ النَّظَرَ إلَيْهِمَا، وَاسْتَشْهَدْتُمُوهُمَا.أَوْ ارْتَبْتُمْ بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سَرْدِ الْقَصَصِ وَالرِّوَايَاتِ وَذِكْرِ الْآثَارِ وَالْمَقَالَاتِ.الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحُكُومَةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ؟ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَوَجِّهَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَغَابَ وَاخْتَفَى بَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّوَثُّقِ مِنْهُ، فَإِمَّا بِعِوَضٍ عَنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ بِمَالِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ؛ وَهِيَ الْمُسَمَّى رَهْنًا، وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَوْكَدُ؛ وَإِمَّا شَخْصٌ يَنُوبُ مَنَابَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالذِّمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ كَغَيْبَتِهِ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ كَتَعَذُّرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.فَإِنْ تَعَذَّرَا جَمِيعًا لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِهِ، حَتَّى تَقَعَ مِنْهُ التَّوْفِيَةُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بَدَنِيًّا لَا يُقْبَلُ الْبَدَلُ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّفِقْ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَثُّقُ بِسِجْنِهِ؛ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ شُرِعَ السِّجْنُ.وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ رَجُلًا ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ».وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ: احْبِسُوهُ؛ فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهُ فَاقْتُلُوهُ».وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهُ عَنَى بِهِمْ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْحَقِّ لَا الْقَائِمَيْنِ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ بِالشَّهَادَةِ لَا حَبْسَ عَلَيْهِ.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: بَعْدَ الْعَصْرِ؛ قَالَهُ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ.الثَّانِي: مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.الثَّالِثُ: أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ.الرَّابِعُ: مِنْ بَعْدِ صَلَاتِهِمَا، عَلَى أَنَّهُمَا كَافِرَانِ.وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرُوِيَ بَعْدَ الظُّهْرِ».وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ بِالزَّمَانِ.وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرَحْنَا أَنَّ حُكْمَ التَّغْلِيظِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَغْلِيظٌ بِالْأَلْفَاظِ.الثَّانِي: تَغْلِيظٌ بِالْمَكَانِ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَرِ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْزَى، وَلِفَضِيحَتِهِ أَشْهَرُ.الثَّالِثُ: التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ، كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النُّورِ» إنْ شَاءَ اللَّهُ.وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ التَّغْلِيظَ يَكُونُ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: بِاللَّفْظِ.الثَّانِي: بِالتَّكْرَارِ.الثَّالِثُ: بِالْمُصْحَفِ.الرَّابِعُ: بِالْحَالِ.الْخَامِسُ: بِالْمَكَانِ.السَّادِسُ: بِالزَّمَانِ.أَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْأَلْفَاظِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ.وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تُجْزِئُهُ.الثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ: أَمَّا رُبْعُ دِينَارٍ وَالْقَسَامَةُ، وَاللِّعَانُ، فَلابد مِنْ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.وَلَقَدْ شَاهَدْت الْقُضَاةَ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، الطَّالِبُ الْغَالِبُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُدْرِكُ الْمُهْلِكُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.وَهَذَا مَا لَا آخِرَ لَهُ إلَّا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ اسْمًا، وَغَيْرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَلَفُوا بِهَا أَرْهَبُ وَأَعْظَمُ مَعْنًى مِنْ غَيْرِهَا.وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ: الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَبِاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَبِالْمُصْحَفِ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكُلُّ فَصْلٍ يُسْتَوْفَى بِمَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ} قِيلَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ إذَا اُرْتِيبَ بِقَوْلِهَا.وَقِيلَ: هُمَا الشَّاهِدَانِ إذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِهِمَا الْحَاكِمُ حَلَّفَهُمَا.وَاَلَّذِي سَمِعْت وَهُوَ بِدْعَةٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى أَنْ يَحْلِفَ الطَّالِبُ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِالْحَقِّ.وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِي إذَا ارْتَابَ الْحَاكِمُ بِالْقَبْضِ لِلْحَقِّ فَيَحْلِفُ إنَّهُ لَبَاقٍ.وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَسُ الشَّاهِدُ أَوْ يَحْلِفُ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {بِاَللَّهِ} وَهَذَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي تَرْكِ التَّغْلِيظِ بِالْأَلْفَاظِ.وَاَلَّذِي أَقُولُ: إنَّهُ إنْ كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ، وَقُلْنَا بِالتَّغْلِيظِ فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي التَّغْلِيظِ قُلْ: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِهَا.وَعَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى»، وَتَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ بِالْمَكَانِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلَاتِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ دَقُوقَاءَ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّغْلِيظِ كُلِّهِ زَجْرُ الْحَالِفِ عَنْ الْبَاطِلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ، وَرَهْبَتُهُ بِمَا يُحِلُّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْبَاطِلِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}.وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْغَرَضَ، فَقُلْنَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا غَلَّظَ فِي كِتَابِهِ يَمِينًا، إنَّمَا قَالَ: فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ.وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ}.وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ خَلِيلِهِ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}.وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».وَلَكِنْ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَتَعْلَمُنَّ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا».وَرَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ «خَصْمَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي: الْبَيِّنَةُ.قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ.فَقَالَ لِلْآخَرِ: احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا لَهُ عَلَيْك شَيْءٌ، أَوْ مَا لَهُ عِنْدَك شَيْءٌ».وَتَغْلِيظُ الْعَدَدِ فِي اللِّعَانِ، وَهُوَ التَّكْرَارُ، وَفِي الْقَسَامَةِ مِثْلُهُ.وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَازِنٍ قَاضِي صَنْعَاءَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ وَيُؤْثِرُ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَصِحَّ.
|